الكاتب : أ.د محمد احمد بصنوي
حين نُمعن النظر في المشهد العالمي الراهن، والأزمات المتتالية والتحديات المُتجددة، ونُحلل القمم والمؤتمرات السياسية الدولية، فقد نعتقد بأن كل شيء مكشوف، وأن ما يُعلن عنه في المؤتمرات الصحفية وقاعات البرلمانات هو وحده من يُحدد مسار الأمم ومصائر الشعوب، ولكن، لمن يمتلك بصيرةً نافذة ، ويستطيع أن يقرأ ما بين السطور، ويربط بين الأحداث السياسية المتشابكة، سيُدرك حتماً أن هناك قوى أخرى تُدير دفة العالم، وهذه القوى تُعرف بـ"عقول الظل"، وهي ليست مُجرد أفراد أو جماعات، بل هي عبارة عن منظومة متكاملة أشبه بشبكة العنكبوت المُحكمة، وتُشكل النموذج المعاصر للهيمنة، وتتغلغل هذه القوى في شرايين الإقتصاد الدولي، ليس بهدف التنمية، بل كوسيلة مُطلقة للتحكم والسيطرة .
هذه القوة التي تُعرف بـ"عقول الظل" لا تنظر إلى الإقتصاد بوصفه مجالاً لتحقيق التوازن بين الإنتاج والإستهلاك، أو أداة أو وسيلة لرفع مستوى المعيشة، بل تراه ساحةً واسعةً للهيمنة وضبط السياسات الدولية وفق أجندة خاصة، ويحدث ذلك عبر أدوات بالغة التعقيد والتشابك، تمتد بالسيطرة المُحكمة على أسواق المال العالمية، عبر البورصات الكٌبرى كـ"وول ستريت في نيويورك"، و"سيتي أوف لندن" في بريطانيا و"فرانكفورت في ألمانيا، وتكمن أهمية هذه البورصات العالمية في كونها مراكز عصبية تُحدد اتجاهات رؤوس الأموال العالمية، ليس هذا فحسب، بل تموضع "عقول الظل" يظهر جليًا و بوضوح في الشركات العابرة للقارات، خاصة التي تعمل في مجالات حيوية تُشكل عصب المستقبل، مثل التكنولوجيا التي تُعيد تشكيل وجه الحضارة، والأمن السيبراني الذي أصبح يُمثل خط الدفاع الأول عن الدول والمؤسسات في عصر المعلومات.
لم تكن المصارف يوماً مجرد خزائن لأموال الشعوب والدول، بل هي مؤسسات تُصنع فيها السياسة وتُشكل المصائر الإقتصادية، وهذا الفهم العميق قادهم إلى التغلغل في أهم معاقل القوة النقدية، ويُعد تأسيس الإحتياطي الفيدرالي الأمريكي عام 1913 شاهداً لا يُمحى على هذه الإستراتيجية، فلقد شارك في تأسيسه رجال مال ومصرفيون كبار، ارتبطت أسماؤهم بعائلات نافذة في عالم المال، مما منحهم سلطة شبه مستقلة، لا تخضع للقرار الشعبي المباشر، بل تُحدد معدلات الفائدة وأسعار الدولار، وتُؤثر بذلك على الأسواق الناشئة والإقتصادات النامية، واليوم يعتبر الدولار ليس مجرد عملة وطنية، بل هو أداة سياسية بامتياز تستخدم لفرض العقوبات الإقتصادية على دول بعينها، أو لضخ السيولة في أماكن مختارة، أو لسحبها من أخرى، في لعبة معقدة من الضغط والتوجيه، فمثلاً، بلغ حجم الإحتياطيات العالمية من الدولار الأمريكي أكثر من 6.8 تريليون دولار في الربع الرابع من عام 2023، أي ما يُشكل نحو 58% من إجمالي الإحتياطيات العالمية، وهو ما يؤكد هيمنته كعملة احتياطية رئيسية وفقًا لبيانات تكوين احتياطيات النقد الأجنبي الرسمية لصندوق النقد الدولي في 2023.
يُضاف إلى ذلك ظاهرة "القطاع المصرفي الموازي" أو الظل المصرفي ، الذي أصبح كياناً مالياً عملاقاً خارج نطاق الرقابة المصرفية التقليدي، حيث تُشير تقديرات ستاندرد آند بورز جلوبال إلى أن هذا القطاع احتفظ بحوالي 63 تريليون دولار من الأصول المالية حول العالم بنهاية عام 2022، وهو ما يمثل78% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ارتفاعًا من 28 تريليون دولار و68% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2009، وهذا النظام غير المنظم يعطي "عقول الظل" مساحة واسعة للمناورة والإستثمار، بعيداً عن أعين الحكومات والمنظمات الدولية.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، ففي السنوات الأخيرة ظهرت فجأة ظاهرة العملات الرقمية المشفرة للتحرر من سيطرة البنوك المركزية والحكومات، ويرى البعض هذه العملات الرقمية وسيلة جديدة لإعادة تركيز النفوذ في أيدي شركات التكنولوجيا والمؤسسات المالية الكبرى التي تستثمر بكثافة في البنية التحتية لهذه التقنيات، ففي عام 2024، تجاوزت القيمة السوقية لهذه العملات المشفرة 2.5 ترليون دولار أمريكي، ومعظم هذه القيمة مُركزة في عملات قليلة تُسيطر عليها كيانات كبرى، مما يُعيد الكرة إلى ملعب "عقول الظل" التي تملك القدرة على الإستثمار والتحكم في "عقد" هذه الشبكات.
والأكثر من ذلك، تزايد الإعتماد على وكالات التصنيف الإئتماني الكبرى مثل فيتش، وستاندرد آند بورز، وموديز، والتي تُعد بمثابة الحكام لمستقبل الدول المالية، فقرار خفض تصنيف ائتماني لدولة ما من قبل هذه المؤسسات العالمية، قد يُحدث هزات اقتصادية عنيفة في لحظة واحدة، خاصة وان خفض التصنيف يساهم في رفع تكلفة الإقتراض بمليارات الدولارات، ويدفع الدول المجبرة على الإقتراض إلى خيارات اقتصادية تُملى عليها من الخارج، وهذه الوكالات تشكل جزءاً رئيسيًا من منظومة "عقول الظل" من خلال قدرتها على التأثير في تدفقات رأس المال العالمية، وهو ما أكده المعهد العالمي لبحوث اقتصاديات التنمية التابع للأمم المتحدة في عام 2020 من خلال تقرير بالقول :" هذه الوكالات ليست مجرد مراقبين، بل صانعي قرار يؤثرون على سيادة الدول ومقدراتها الوطنية".
وأخيرًا وليس آخرًا، فهذا المقال هدفه قراءة مختلفة للمشهد العالمي في محاولة لرؤية الخيوط التي تُحرك الدمى في مسرح الإقتصاد العالمي، فليس الهدف أن نُدرك وجود هذه القوى فحسب، بل نشر الوعي الذي يُعد أول خطوة نحو عالم لا يخضع لهيمنة "عقول الظل"، وفي هذا الإطار لا ننسى أن المملكة تغرد خارج السرب، ولا تترك نفسها لإهواء هذه الكيانات أو المنظمات، وهذا واضح من رؤية المملكة 2030 وتنويع الإستثمارات لتحقيق مستقبل أفضل ومزدهر لشعوبنا.