لقاء على الرصيف ..
إعتدت دوما عند نهاية كل يوم بعدما تنام العيون ويخيم الصمت على المكان أن تقودني قدماي للجلوس على ذلك الرصيف لأنقش عليه ما فاض به قلبي من أوجاع وآمال وأحلام،كانت تلك الأرض الخرسانية الصلبة وسواد الليل الذي يبدده الضوء المنبعث من عمود النور الذي من خلفي والنسمات الباردة التي تداعب خصلات شعري المنسدل على وجنتي وانعكاس ضوء القمر على الأغصان المتراقصة بفعل الرياح هم الذين يشاركوني تفاصيل يومي ، أتحدث معهم ببساطة وبدون خجل أو تكلف أو انتقاء الكلمات بعناية حتى لا أُفهم بطريقة خاطئة، ينصتون لي وكأنهم يُشعروني أن كل ما يحدث لي هو من أهم أولوياتهم لا أشعر بينهم بغرابة ولا خوف أو وحشة،بالرغم أني لاأسمع سوى صوتي ولا أرى غير ظلي الممتد أمام عيني حينها كان ينتابني شعور خفي أعجز عن وصفه فأسعى جاهدة للملمة شتاتي والهروب بمخيلتي للحظات طالما تمنيت أن أعيشها فأغمض عيني لأنعم بهدوء يُحلق بي عاليا إلى العالم الذي أنشده،أظل على هذا الحال إلى أن يسكن ذلك الضجيح الذي يكاد يقتلني ويجف الدمع الذي بمقلتي وتتسلل الراحة لقلبي،حينها أعود إلى محطة راحتي وأُعلن قناعتي بنهاية يومي وتصالحي معه فيهدأ قلبي وتعود السكينة إليه وترتسم تلك الإبتسامة على ثغري،كان ذلك يحدث لي كل ليلة حتى أصبح جزءاً مهما في حياتي لا غنى لي عنه،بقيت على هذا الحال فترة طويلة وفي إحدى الليالي لمحتْهُ عيني يقف على الرصيف المقابل متكئا على تلك الشجرة وكأنه يريد تخفيف ثقل أرهق عاتقه، يرتدي معطفا أسودا ووشاحاً أحمراً على كتفيه، نظر إليّ ومن ثم أخرج سيجارة وأشعلها، لم تكن ملامحه ظاهرة لي، ولم أكترث لوجوده وعدت لممارسة الطقوس التي إعتدت عليها،في اليوم التالي كان يتواجد بنفس المكان وعند جلوسي أشار إليّ بيده فلم أعره أي إهتمام، فاقترب قليلاً مني وسألني هل أنت من سكان هذا الحي؟ أجبته : يبدو لي أنك إنتقلت للعيش في هذا الحي مؤخرا،تَبسم وأدخل يده في جيبه، الصحيح أني أعيش هنا منذُ شهرين تقريباوأسكن بالبناية التي خلفي في الدور الرابع شقة رقم خمسة، تعجبت من كلامه وهمست له ولكني أراك للمرة الأولى !! فبادرني بقول وأنا كنت أراكِ كل يوم من خلال نافذة غرفتي تلك وأشار إليها،كنت أسمع صوت أنينك حين تبكين وصوت ضحكاتك عندما تسعدين وأراك عندما تتألمين تضعين يدك على فمك لتكتمين صوت صرخاتك لكي لا تُسمع ثم تضعين رأسك بين قدميك لتُشعري نفسك بقليل من الأمان، وعندما تتركين العنان لخيالك تستندي على العمود الصلب الذي خلفك وتسامرين القمر ونجومه،كنت أتمنى أن أرى ما تكتبين أو أي كتاب تقرئين.كنت أنصت إليه وأنا في قمة الذهول ولكن لم أحرك ساكناً،ثم سكت برهة وأكمل _هل لي بالجلوس بقربك ؟ ترددت قليلاً قبل أن أقبل عرضه وبعدها قبلت بشرط ألا ينظر أحدنا لوجه الآخر فجلس كلٌ منا وظهره للآخر دون أن ننطق بكلمة واحدة نسترق قليلا من الهدوء وترحل أرواحنا نحو جمال ضوء القمر ننعش أنفسنا برائحة العشب المرطب بقطرات الماء والنسمات الباردة تسافر بنا إلى مدينة الأحلام . إستمر بنا الحال قرابة ثلاث ساعات متتالية لم يكل أو يمل أحدنا بل ولم ننطق بكلمة واحدة ومن ثم عاد كلٌ منا إلى عالمه.في اليوم التالي وبينما نحن على نفس الحال قال: لِما تقسو علينا الحياة تأخذ منا من نحب وترحل بهم بعيداً وتبقي لنا من نهون عليهم ولا يكترثون لأمرنا؟ تتجمد مشاعرنا و قلوبنا تنبض فقط لنعيش بلا إحساس ونصبح أجساداً بلا أرواح ! لما كلما أردنا أن نضحك تبكينا؟ وعندما نرسم الإبتسامة تمحوها لنا ؟ لما تضعنا أمام تيار الأحزان؟وتسقينا من بحر الآلآم ولما تتقن معنا فنون العذاب؟ هل أصبحت السعادة تقمع في سجونها حتى لا نسرقها منها ! لما أبكتنا بدلاً من الدموع دما؟ولما؟ولما؟و لما؟شعرت حينها أني لم أكن الوحيدة بهذا العالم التي تحمل بين أضلعها وجعا يصعب تحمله،كان كلامه عن ألمه يفتت الصخر ويرق له القلب ويسيل له الدمع .كان مسترسلاً بالحديث وأنا أستمع لكلماته ، حائرة لا أعلم كيف لي أن أداويه وكيف أنتزع ذلك الألم الذي أدماه وأرمم الخراب الذي بداخله،كانت دموعي التي لا يراها تسيل على وجنتي ويدي التي أضعها على قلبي لتُخفف من حرقته هي حلي الوحيد، كنت أتمنى حينها أن ألتفت إليه وأربت على كتفه لعلي أخفف من حرقة قلبه ولكني بقيت صامتة أضم نفسي بكلتا يداي لأني كنت عاجزة عن مواساته و على يقين لو صففت الحروف والكلمات بجميع لغات العالم وصببتها بأذنيه لما استطعت إخماد ذلك البركان الذي يثور بداخله ولن يهدأ ذلك الغضب الذي أنهكه وأحرقه. أخيراً أنهى حديثه بعد أن بح صوته ثم أخرج تنهيدة على هيئة أنفاس مرهقة من معتقل السكوت، بعدها حل الصمت ضيفاً علينا ،شعرت حينها أن هناك من شاركني الوجع والقهر والظلم بهذه الحياة بل وكسر الصمت الذي خيم عليّ طوال تلك الأيام، توالت الأيام ونحن نلتقي كل ليلة، نتسامر و نتبادل الحدث، يشكو لي تارة وأنا أشكو له تارة أخرى، أصبح بيننا لغة مشتركة وهي لغة الأرواح بل وبدأ كل منا يعرف بماذا سوف يتفوه قبل أن ينطق به وكأن الله ساقه إليّ ليبعث في قلبي الأمان والبهجة والمواساة.كنت بداخلي سعيدة فقد أصبح لي رفيقا يتقاسم معي حلو الأيام ومرها وكأن ذلك الرصيف هو ملتقانا الذي نهرب إليه من ضغوط الحياة فنبتسم ونبكي ونصرخ ونتألم ونحلم ونتبادل الآراء بآنٍ واحد معاً .
ويظل السؤال: هل سيجد كل منا ضالته التي يبحث عنها ويأمل أن يجدها ؟ أم سوف نظل نفترش ذلك الرصيف معا ؟ وهل سيبقى معي ؟ أم سأعود يوما ما كما كنت أسامر ليلي لوحدي على ذلك الرصيف .
انتهت قصتي . _وقفة ( جميلة أن تجد من يشعر بك ، و يحتوي ضعفك ، بل ويشاركك لحظات السعادة والألم والأحزان والصدمات،وإن لم تجد لا تحزن وكن لنفسك كل شيء وكأنك تملك كل شيء ) دمت بخير يامن تقرأ قصتي ...
الكاتبة / سميرة عبدالهادي