الحل السحري لتقدم الأمم ..
تقدم الدول مرتبط بصورة مباشرة بتقدم الإقتصاد في شتى المجالات خاصة الصناعة، وزيادة الصادرات، وخفض الواردات، والقضاء على البطالة، وتقليل معدل التضخم، وبالتالي زيادة معدل الناتج المحلي الإجمالي، وهذا الأمر لن يحدث إلا من خلال الإهتمام بالتعليم الذي يعد عنصرًا فاعلاً ورئيسيًا في تحقيق أي تقدم منشود ، وإذا تأملت تجارب الدول المتقدمة والتي تقود العالم الآن في الصناعة والتطوير والتقدم التكنولوجي تجدها بدأت من نقطة الصفر، أو تحت الصفر إن صح التعبير، فالتجربة اليابانية بدأت بعد الحرب العالمية الثانية، حيث كانت برلين مدمرة تمامًا، وكذلك التجربة اليابانية.
وفي هذا الإطار، سنركز على تجربة سنغافورة التي كانت تعاني من مجاعة تفتك بالشعب، ولكن بفضل التخطيط والإرادة والإهتمام بالتعليم استطاعت التغلب على كل التحديات ، وأصبحت تحتل مرتبة اقتصادية متقدمة عالميًا ، فبعد أن استقلت سنغافورة من الإحتلال البريطاني في عام 1959 نتيجة لانتشار المجاعات، توجه رئيس الوزراء السنغافوري "لي كوان" إلى طلب المساعدات الإقتصادية ، ولكن كل محاولاته باءت بالفشل، وفي هذا الوقت كان ثلث الشعب بلا عمل، ويعيش في منازل فقيرة تفتقر إلى الحد الأدنى للمقاومات الحياة ، فلم يجد "كوان" أمامه للتغلب على هذه التحديات إلا التصنيع الذي يعتمد على العمالة الكثيفة للقضاء على البطالة، ورفع مستوى المعيشة، وتعظيم مصادر الدخل.
ولكن الأمر ليس بهذه البساطة ، فمعظم السكان ليس لديهم خبرة في العمال في المجالات الخاصة بالتصنيع ، وكل خبراتهم تتراكم فقط في العمل في المجالات الخدمية والتجارية، ولكن استطاع أن يتغلب على هذه الإشكالية والتحدي الكبير من خلال إقامة علاقات تجارية مع أوروبا والولايات المتحدة، فيما يعرف في هذا الوقت بـ "مجلس التنمية الإقتصادية"، الذي كانت مهمته تتمثل في جذب الإستثمارات الأجنبية وإزالة أي عوائق أو قيود أو رسوم ، وازدادت تدفقات الإستثمارات الأجنبية المُباشرة الوافدة بشكل كبير، حيث أنتجت الشركات الأجنبية ما نسبته 75٪ من المنتجات الصناعية، و85٪ من الصادرات المصنعة في الوقت نفسه ، وارتفعت مُعدلات الإدخار والإجستثمار في سنغافورة ، لتُصبح من بين أعلى المستويات في العالم ، كما أنها الشريك التجاري الخامس عشر للولايات المتحدة الأمريكية، كما احتلت المرتبة الثانية في القدرة التنافسية الإقتصادية على مستوى العالم ، حيث أبرمت الدولة اتفاقيات تجارية قوية مع العديد من البلدان في أمريكا الجنوبية وأوروبا وآسيا أيضًا يوجد حاليًا أكثر من 3000 شركة متعددة الجنسيات تعمل في البلاد ، وهي تمثل أكثر من ثلثي إنتاجها التصنيعي ومبيعات التصدير المباشرة ،، مما يجعلها واحدة من أقوى الاقتصادات في العالم بالنسبة لدولة صغيرة ذات موارد طبيعية قليلة.
أصبحت سنغافورة الآن واحدة من الدول المتقدمة ، وبسبب السياسات سالفة الذكر، ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 320 دولارًا أمريكيًا، إلى 60 ألف دولار أمريكي، على الرغم من أن مساحة هذه الدولة لا تتجاوز 433 ميلاً مربعاً فقط وقوة عاملة صغيرة من 3 ملايين شخص ، فإن سنغافورة قادرة على إنتاج ناتج محلي إجمالي يتجاوز 300 مليار دولار سنوياً، ويعد حجم الناتج المحلي الإجمالي مرتفعاً بالنسبة لدولة مثل سنغافورة حجم سكانها قليل ، وتقوم بتصدير العديد من الصناعات مثل الإلكترونيات والإتصالات والأدوية والكيماويات بالإضافة إلى المكننة والمعدات، وتعتبر سنغافورة واحدة من أفضل الأماكن للعيش على وجه الأرض.
يعد التعليم أحد العناصر الرئيسية في تجربة سنغافورة التنموية، حيث أهتمت الدولة بالأنظمة التعليمية غير التقليدية للقضاء على الأمية والبطالة، لتوفير ما تحتاجه البلاد من أيدي عاملة، وخصصت 20% من مواردها للإهتمام بالتعليم ، وهذا انعكس على جودة التعليم ، فبرغم من حداثة نشأة جامعة سنغافورة إلا أنها أحتلت المرتبة 11 عالمياً من بين جامعات ذات التخصص حسب تقييم QS للعام 2020 م .
حديثي عن تجربة سنغافورة لم يكن من قبيل المصادفة، ولكنه كان متعمدًا، فالكثير من الدول النامية أو الفقيرة تتحجج أو ترى أن سبب الفقر هو قلة الإمكانيات والموارد الطبيعية، وهو ما أثبتت فشله سنغافورة التي تعاني من قلة الموارد، واستخدمت كافة مواردها بالشكل الأمثل، ومع عجز هذه الموارد عن تحقيق التنمية المستهدفة، لم يكن أمام سنغافورة خيارًا إلا العمل على جذب الإستثمارات الأجنبية التي كانت بمثابة الحل السحري لتعويض العجز الموجود في الإمكانيات، من خلال وضع الكثير من الحوافز ، وإزالة الكثير من العوائق ، إلى أن وصل الأمر أن 75% من المنتجات في هذه الدولة منتجة من قبل الشركات الأجنبية مثلما ذكرنا سابقًا.
إذا ماذا ينقص المملكة لتحقيق التقدم المنشود؟ ما زالت المملكة في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد لجذب الإستثمارات الأجنبية التي تُعد من أهم عوامل التنمية الإقتصادية، وتوفير المزيد من فرص العمل بعائد مرتفع ، وهذا لن يتحقق إلا من خلال توفير بيئية استثمارية جاذبة، وتبسيط الإجراءات الحكومية، وتوفير الحوافز الضريبية والمصرفية الفعالة، كما يجب اعداد نظام تعليمي يهتم بصورة كبيرة بتوفير العمالة الماهرة، خاصة في القطاعات الصناعية والتكنولوجية، حتى لا نستورد العمالة من الخارج، ولذلك هناك ضرورة ملحة لتعزيز تدريس العلوم والتكنولوجيا في المدارس والجامعات، وتوفير فرص التدريب المهني للعمالة.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإن ما ذكرنا سابقًا ما هو إلا من أجل تسليط الضوء على بعض السلبيات التي قد تعرقل تقدم البلاد، ولكن الشيء المؤكد والمبشر هو أن المملكة بفضل الله عز وجل، استطاعت أن تضع يدها على الطريق الصحيح نحو التقدم، وتنويع مصادر الدخل، حتى لا نعتمد على مورد واحد فقط، وهذا بفضل الرؤية الثاقبة لخادم الحرمين حفظه الله ورعاه، وولي عهده الأمين، اللذان لا يدخران جهدًا ، إلا من أجل العمل على تحقيق مستقبل أفضل لشعب المملكة، وهذا واضح من اطلاقه رؤية المملكة 2030 التي تسعى إلى تحويل المملكة لواجهة استثمارية رائدة في العالم، وهذه المشاريع وغيرها، تُعد خطوة مهمة على طريق تحقيق مستقبل أفضل لشعب المملكة.
الكاتب :
أ .د محمد احمد بصنوي