نفط القرن الـ21 ..
أدى ظهور النفط خلال القرن الماضي إلى تحالفات غير عادية بين العديد من دول العالم بصورة ليست متوقعة، وأثار الكثير من الخلافات الدبلوماسية في بعض الأحوال، كما أدى لتغيير خريطة العالم الجيوسياسية والإقتصادية، لكن حالياً يتصارع ويتسابق العالم على مورد ثمين آخر ألا وهو "الرقائق الإلكترونية" أو أشباه المواصلات التي تُشغل حياتنا اليومية حرفيا، ومن يتحكم في سلاسل التوريد، يمتلك مفتاح الدخول إلى العالم المتقدم، بل لا أُبالغ إذا قلت سيتحول إلى قوى عظمى بصورة منقطعة النظير.
تعد الرقائق الالكترونية النفط الجديد في القرن الـ21، فهي عبارة عن مكونات تدخل في صناعة كل شيء من سيارات إلى هواتف إلى توربينات الرياح ومختلف أنواع الأسلحة، فهي بعبارة أخرى مكونات "يعتمد عليها كل شيء"، بحسب تعبير المستشار الألماني أولاف شولتس خلال افتتاح مصنع جديد للشركة الألمانية المصنّعة "إنفينيون" (Infenion)، وتقدر قيمة هذه الصناعة بـ 500 مليار دولار، ومن المتوقع أن تتضاعف بحلول عام 2030، ولذلك هناك ضرورة للعمل على التدخل بقوة في هذه الصناعة، وهذا ليس سهلاً، خاصة انها صناعة دقيقة للغاية، وهناك الكثير من الدول المتقدمة لم تستطيع أن تحتل مكانة عالمية في هذه الصناعة، ورغم أن أشباه الموصلات اخترعت في الولايات المتحدة، فإنها لا تنتج سوى 10% فقط من الإمدادات العالمية وفقاً للبيت الأبيض، مع استيراد نحو 75% من الإمدادات من شرق آسيا، وأصبحت تايوان تنتج 90% من أشباه الموصلات الأكثر تقدّماً في العالم ثم كوريا الجنوبية، والصين بشكل متزايد وفقًا لسكاي نيوز، وربما هذا يُفسر فكرة الدعم الامريكي القوي لتايوان ضد الصين.
السؤال الذي يطرح نفسه الآن بقوة، هو كيف ندخل هذه الصناعة المتقدمة جدًا والتي تعتبر أحد الصناعات الهامة في كافة مجالات الحياة؟ الإجابة ببساطة تكمن في الإستفادة من تجارب الآخرين وعقد شَرَاكات مع الدول المتقدمة في هذه الصناعة، وهذا الأمر على المدى المتوسط والطويل، ولكن هناك إجراءات من الممكن أن تدخل المملكة كلاعب رئيسي في هذه الصناعة بشكل سريع جدًا، ألا وهو الإستحواذ على أحد الشركات أو المصانع المهمة في هذا القطاع، مثلما فعلت دولة الإمارات العربية من خلال استحواذ شركة مبادلة للإستثمار في أبوظبي، وهي مستثمر سيادي رائد، على شركة استثمار التكنولوجيا المتقدمة (ATIC)، الشركة الأم لشركة تصنيع أشباه الموصلات "غلوبل فاوندريز" ومقرها كاليفورنيا، وتعد تلك الشركة واحدة من أكبر خمس شركات لتصنيع الرقائق على مستوى العالم، وتنتج أشباه موصلات متقدمة لشركات مثل أبل وإنتل وأمازون، كما أنها تعتبر ثالث أكبر منتج لأشباه الموصلات بعد TSMC وسامسونغ، ومؤخراً، قامت شركة Next Orbit Ventures الإماراتية بتأسيس مشروع لإنشاء مصنع لتصنيع الرقائق بقيمة وصلت لـ3 مليار دولار.
صحيح أن هناك فجوة زمنية بيننا وبين العالم الأول، خاصة في المجال التقني والتكنولوجي، ولكن هناك دول استطاعت أن تسابق دول العالم الأول مثل دول شرق أسيا في مجال صناعة الرقائق الإلكترونية، وهناك دول تعمل على اللحاق بهذه الدول مثل دولة الإمارات العربية، ولذلك علينا العمل على سد هذه الفجوة الرقمية بحلول غير تقليدية، فالفكر التقليدي في تبني مثل هذه الصناعات المتقدمة من خلال إنشاء مصنع داخل البلاد، والعمل على استقطاب الخبرات اللازمة من شأنه أن يأخذ الكثير من الوقت، وربما يفشل في النهاية، لكن عند الإستحواذ على شركة رائدة في هذا المجال، من الممكن ببساطة نقل التقنية إلى داخل البلاد، والتحول إلى دولة رائدة في هذه الصناعة.
وأخيرًا وليس آخرًا، فإن "الرقائق الإلكترونية" أحد الصناعات التي يعتمد عليها المستقبل في كافة المجالات، ومن يستطيع أن يضع موطِئ قدم في هذه الصناعة، فهو يحجز مقعدًا بين صفوف دول العالم المتقدم خلال المرحلة المقبلة، فبدون وجود إنتاج أو امدادات ثابتة من الرقائق الإلكترونية، فإن أي اقتصاد متقدم سيتوقف عن العمل وبالتالي، فإنّ هذه التقنيات هي التي ستحدد مكانة كل دولة على الصعيد الإقتصادي وحضورها وتأثيرها السياسي والأمني، وربما هذا يُفسر فكرة التصارع والتنافس بين دول العالم على امتلاك هذه الصناعة المتقدمة ، وسيكون دوما و ابدا " لا نهضة إلا بالصناعة"
الكاتب :
أ.د محمد احمد بصنوي