التعليم عن بعد نكبة أم تطوير
لاشك أن أزمة كورونا، أدت إلى قيام الكثير من الدول بتطبيق الاجراءات الاحترازية للوقاية من هذا الفيروس المميت، التي من بينها ما يسمى بالتعليم عن بعد، في اطار منع الاختلاط، وتقليل امكانية إصابة الطلاب بهذا الفيروس المصطنع اللعين، صحيح أن التعليم عن بعد، يُقلل معدل انتشار عدوى كورونا، ولكنه في نفس الوقت للأسف يقلل معدل التعليم، خاصة بين طلاب المرحلة الابتدائية والاعدادية، ويلعب دورًا كبيرًا في انهيار مؤسسة التعليم التي هي بالفعل متدهورة وغير متطورة، ولا تلبي متطلبات سوق العمل، فتخرج لنا سنويًا جيوشَا من العاطلين الباحثين عن العمل، رغم توفر ملايين الفرص التي لا تناسب الخريجين، بسبب عدم امتلاكهم المهارات اللازمة، ولعدة أسباب أخرى لا داعي لذكرها الآن.
ما يثير التعجب والتفكير والجنون، هو الاصرار على الاستمرار في منظومة التعليم عن بعد، دون إجراء أي دراسات حقيقية حول الخسائر التي حدثت الفترة السابقة من تطبيق هذه المنظومة الجديدة، ولك أن تتخيل حجم الخسائر الناتجة من تطبيق التعليم عن بعد، إذا علمت أن 52% من الطلاب السعوديين لا يتقنون القراءة، و67% لا يتقنون أساسيات الرياضيات، وفقًا لمنظمة التنمية والتعاون الاقتصادي، فكيف يستطيع أكثر من نصف طلاب المملكة التعلم عن بعد، ونحن فشلنا في تعليمهم عن قرب، ألا يستحق هذا الأمر إلى إعادة نظر، خاصة أن خطورة التعليم عن بعد في مراحل التعليم الأولى، تكمن في تخريج جيل بأكمله، لا يعرف القراءة والكتابة.
إن الحفاظ على العام الدراسي للطلاب في ظل أزمة كورونا مهم، ولكن الأهم هو الحفاظ على التعليم، وعدم المساهمة في انهيار المنظومة التعليمية التي تشهد بالأصل تراجعا مقلقا منذ سنوات، ويمكننا القول، وبلا أي تحفظ، اننا نعيش ردة تعليمية حقيقية في الوقت الراهن، سينتج عنها حال استمرار التعليم عن بعد، مزيدًا من التراجع في مخرجات العملية التعليمية، خلاف أن التعليم عن بعد لا يحقق العدالة في تلقي جمع الطلاب تعليم جيد، خاصة أن الطالب في المدن سيتمتع بإنترنت سريع، وهذا الأمر غير متوفر لنظيره الذي يقطن المناطق النائية.
إن اشكاليات وتحديات التعليم عن بعد لا تتوقف فقط ،على تأثيرها السلبي على مخرجات العملية التعليمية، ولكن لها انعكاس تدميري على نفسية وشخصية الطالب، فالطفل سوف يجلس لساعات طويلة أمام الكمبيوتر، مما يؤدي إلى فقدان الطفل أو الطالب مهارة التواصل المباشر، مما ينتج عنه انطوائية وزيادة في العدوانية لدى الطفل وشعوره بالقلق، وهو ما يعني أننا سنشهد ظاهرة الطفل الزومبي الذين يحدق لساعات طويلة بالكمبيوتر دون أي تفاعل مع محيطه، خلاف زيادة أنتشار مرض السمنة وخلافه من الأمراض الناتجة من عدم التحرك وممارسة الرياضة.
إن التعليم عن بعد ليس تطويرًا، ولكنه تدميرًا للعملية التعليمية بمعنى الكلمة، وهذا الكلام ليس نابعًا عن هوى ذاتي، بل مؤكدًا بالكثير من الأدلة العلمية والعملية، وفي هذا الإطار سأستشهد بالتعليم الفنلندي الذي يعد الأفضل على مستوى العالم،، فأكبر مفاجأة قد يجدها الزوار للمدارس الفنلندية، هو الغياب شبه التام للتكنولوجيا، فلا يمكن أن ترى أي طالب في المدرسة لديه جهاز كمبيوتر محمول أو تابلت، أما خارج المدرسة، يمتلك معظم الطلاب اثنين أو ثلاثة من أحدث الجوالات الذكية، وفي هذا الاطار أكدت رئيسة جامعة إي تي اتش/ ETH في زيوريخ، لينو غوزيلا، فشل التعليم عن بعد، قائلة: "التفاعل بين الطلبة والمشرفين عليهم في فضاء جامعي حقيقي صغير، هو مفتاح التعلّم العميق" ، فيما تقول يانغ هاي وين، من جامعة الطب في غوانزو الصينية، "التعليم الرقمي يؤدي إلى تخريج طلبة أقل كفاءة، ويخلق الإحباط في التواصل بين الأشخاص".
وفي هذا الشأن، قال العلامة الحبيب أبو بكر المشهور منذ ١١ عاما ، إن هناك فترة من الزمان ستشهد انفصال الأبناء عن أباءهم ومنازلهم وبيئتهم، ويرتبطوا بالآلة، وربما تملي عليهم الأفكار من خلال الآلة، وربما تتغير المجتمعات من الآلة، وسيأتي عصر لن تكون هناك حاجة للأستاذ في الجامعة، فمن خلال الانترنت يستطيع الطالب الحصول على أكبر الشهادات، مما ينتج عنه جيلاً مشوهًا، فكل الجيل سيكون عدو لوالديه، عدو لسلوك أبائه، وعدو لمجالسه....
أعتقد أننا للأسف نعيش هذه الفترة.
وأخيرًا وليس آخرًا، فأن الحديث عن التحديات والإشكاليات التي تواجه التعليم عن بعد، كبيرة جدًا، وفي حاجة إلى عدة مقالات، ولكن الأمر الثابت هو أن الأدلة على فشل منظومة التعليم عن بعد، لا يمكن حصرها في بضع كلمات، صحيح أن التعليم عن بعد له واجهته، ويحقق الكثير من الإيجابيات في معظم دول العالم، ولكن هذا الأمر محصور في مرحلة التعليم الجامعي، وليس التعليم الأولى... نحن في حاجة إلى إجراء سريع لوقف هذا الضياع.
الكاتب :بروفسور / محمد احمد بصنوي