كلمة السر لتقدم الأمم
تلعب الصناعة دورًا حاسمًا في تقدم الدول على مر العصور، فهي القطاع الوحيد القادر على انتشال الشعوب من الفقر إلى الرخاء، فلا نهضة إلا بالصناعة ، حتى مع عدم امتلاك الموارد الطبيعة الكافية، فالصناعة توفر الكثير من فرص العمل المستدامة، وتعزز الدخل الشخصي للمواطنين، وتزيد من حجم النتاج القومي، والتعاون الإقتصادي بين الدول، ناهيك عن النفوذ الإقتصادي والسياسي والعسكري بين كافة دول العالم.
صحيح أن منافسة الدولة المتقدمة مهمة شبه مستحيلة، بسبب عدم امتلاك التقنية، خلاف أن الدول المتقدمة لن تقوم بنقل التقنية اللازمة للصناعة، حتى لا تنافسها مستقبلا، وإذا فعلت، فقد تكون التقنية قديمة، حتى تدور في فلك التخلف، خاصة في القطاعات التكنولوجية، ولذلك نحن في حاجة إلى إعداد زخم هائل حول صناعة ما، مثل إطارات السيارات مثلما تحدثت في مقال "الصناعة الواعدة"، واحتلال مكانة عالمية في هذه الصناعة، ومن ثم تكرار التجربة في أكثر من قطاع، وتحقيق النهضة المنشودة في كافة المجالات، فالنهضة لن تتحقق إلا من خلال الصناعة.
ولنا في دولة بنجلاديش عبرة، فهذه الدولة التي مساحتها أصغر من تونس، وتعداد سكانها يفوق تعداد سكان الجزائر والعراق والمغرب والسعودية مجتمعيين، كان أكثر من نصف سكانها تحت خط الفقر، و85 مليون لا يعرفون القراءة ، وأقل من نصف السكان هم من يصلهم الكهرباء في عام 2000، خلاف انتشار البطالة والأمراض والأوبئة والكوارث الطبيعية والبيئة، وبنية تحتية مدمرة.
أما اليوم فالناتج المحلي لهذه الدولة، يفوق الناتج المحلي الإجمالي لقطر والمغرب وتونس ولبنان، حيث انخفض الفقر بنسبة 30%، وارتفع عدد المتعلمين في البلاد بنسبة 30%، والكهرباء تصل الآن لجميع السكان، وأصبحت بنجلاديش الدولة الثانية في العالم في تصدير الملابس، ومن المؤكد أن في منزلك قطعة ملابس واحدة على الأقل، صنعت في هذه الدولة، كل هذا حدث في 20 عامًا فقط، فكيف حدث ذلك، وما هي قصة بنجلاديش؟.
بنجلاديش التي تقع في جنوب شرق أسيا، هي بلاد لم نكن نسمع عنها سوى أحاديث الفيضانات والمشردين، مساحتها تقدر بـ147.570 كيلو متر مربع، وعدد سكانها أكثر من 160 مليون ، ولا تمتلك ثروات طبيعية، وقبل 20 عامًا كانت مصنفة بين أكثر الدول فقرًا في العالم، ومعدل دخل الفرد سنوًيا كان لا يزيد عن 430 دولار ، واجمالي الناتج المحلي في البلاد لا يتجاوز 40 مليار دولار، وصادرات البلاد كانت تقدر بـ6.5 مليار دولار فقط ، وهو ما يشير إلى أن بنجلاديش كانت شبه دولة، ولكنها صعدت بسرعة فائقة، وهذا ما جعل الكثير من الخبراء يصفون ما حدث في بنجلاديش بأفضل تجربة اقتصادية ناجحة في العالم.
وصل حجم صادرات بنجلاديش إلى العالم خلال السنة المالية 2020 – 2021 من الملابس الجاهزة 31.4 مليار دولار، ويوظف هذا القطاع 4 ملايين من الأيدي العاملة في البلاد، تشكل النساء 70 % منهم، وتساهم هذه الصناعة بـ 11.7 % من الناتج المحلي الإجمالي، وبدأت نهضة صناعة النسيج والألبسة في بنجلاديش في الثمانينات، حيث تم ابتعاث 130 متدرباً إلى كوريا الجنوبية للإلتحاق ببرنامج تدريبي حول صناعة الألبسة الجاهزة، ومن ثم الاعتماد عليهم لتأسيس أول مصنع لتصدير الألبسة الجاهزة، وفي عام 1982 بلغ عدد منشآت صناعة الألبسة 47 منشأة فقط، وسرعان ما ارتفعت إلى 587 منشأة بين عامي 1984 – 1985 ليبلغ حالياً 4756 مصنعاً متخصصاً في انتاج الألبسة والثياب.
اقتصاد بنجلادش تفوق على باكستان مع بداية عام ٢٠٢٠، وأصبح ثاني قوة اقتصادية في منطقة جنوب اسيا بعد الهند، ويبلغ معدل نسبة الدخل السنوي للفرد نحو 8500 دولار أمريكي، وتعد بنجلاديش الدولة الأسرع في زيادة عدد الأثرياء ما بين عامي 2012و2017 ، ومن أسرع 5 اقتصاديات في العالم، وينمو اقتصادها الآن بمعدل 7.5%، ويقدر أحد التقارير التابعة لمؤسسة الابحاث التابعة لمصرف HSBC بأن حجم اقتصادها سيصل في 2030 لـ700 مليار دولار، وبذلك تكون ضمن أقوى 30 دولة اقتصاديًا، هذه الأرقام المذهلة تشير إلى أننا أمام حالة استثنائية من اخلاص و وفاء أهل هذه البلاد ومسؤوليها لوطنهم ومجتمعهم .
وأخيرًا وليس آخرًا، فلم أتحدث عن التجارب الإقتصادية لليابان أو ألمانيا في هذا المقال مثلما تحدث الكثيرين، لأن صورة بنجلاديش ما زالت في الأذهان بأنها بلاد الفقر والعوز والمشردين، صحيح أن بنجلاديش لم تخرج بصورة كاملة من الفقر، ولكنها في الطريق إلى ذلك، تجربة بنجلاديش تؤكد أن التقدم والنجاح ما زال ممكنًا، حال الإهتمام بالصناعة، التي تعتبر كلمة السر لتقدم الأمم، هذه التجربة الفريدة تقول بأن عالمنا العربي الغني بالموارد الطبيعية والبشرية، قادر على أن يكون أفضل وأكثر تميزًا من بنجلاديش، حال الإهتمام بالصناعة، فمثلما أقول دائمًا لا نهضة إلا بالصناعة.
الكاتب :
أ.د محمد احمد بصنوي