المستقبل الغامض في وسائل التواصل الاجتماعي

الكاتب: عبدالعزيز الجاسم

لا يختلف اثنان على أنّ برامج وسائل التواصل الاجتماعي احتلّت مكان لغة الخطاب المتداولة بين أغلب الشعوب، من الرسائل النصية التي سبقت الجيل الثالث من الاتصالات وحتى الاتصال المرئي في الأجيال اللاحقة، بل وأضحى انتشارها كبيراً لتتوفر في متناول يد الصغير قبل الكبير، والشركة الكبرى قبل المجموعة الصغيرة التي تضم خمسة أو ستة من غير المتعمقين في التقنية.
 لقد نقلتْ وسائل التواصل الاجتماعي طاولة الحوار لتضعها في سلاسل تغريدات ومساحات "تويتر" وتجدول أجندة الاجتماعات كثيرة الأوراق لتجمعها في "تيليغرام"، وتُعلِن عن المنتجات الجديدة في "إنستاغرام" و"فيس بوك" و"واتس أب" وغيرها من البرامج المتداوَل استخدامها اليوم لتكون بديلةً عن الصحف الورقية واللوحات الإعلانية العامة، وهذا دليلٌ دامغٌ على قدرة هذه الوسائل على نقل الحياة الروتينية من وجودها الواقعي لعالمٍ افتراضي سهّل بطرق متعددة فرصَ انتشارها وترشيد العديد من الموارد التي يتم استهلاكها لإنجاز الأعمال وتسيير الحياة الاجتماعية، كل ما عليك فعله هو أن توفّر جهازاً يمكنه احتواء تلك البرامج ويكون مدعّماً بشبكة الإنترنت، حياةٌ سهلةٌ واقتصادٌ متوفر الموارد دون خوف من انقطاع أو حذر من ضياع.
لكن، هل سيدوم هذا الحال على ما هو عليه؟ هل سنظل مقتنعين بأن تلك الوسائل التي استطاعت السيطرة على كل موضوعةٍ من تفاصيل حياتنا ستسير بهذا النمط من التوفر غير المدفوع؟ إن كنا نظن ذلك فسوف نصطدم بجدارٍ يوقِف جميع صِلاتنا ويضع كل إرثنا الذي جمعناه في هذه الوسائل في صندوق محكم الإغلاق، ذلك الصندوق الذي لن نستطيع فتحه إلا باستخدام المفتاح الذي يقرر مسؤول ذلك البرنامج استخدامه للعثور على أنفسنا المبعثرة داخل تطبيقه.
منذ عامين تقريباً فرضتْ شركة "سناب تشات" رسوماً على مستخدميها الذين يطمحون لتوثيق حساباتهم، تلك الرسوم لم تُثِر ضجةً كبيرةً حينها حيث أن أولئك المستخدمين من فئة المُعلِنين لم يهتموا لتلك المبالغ الزهيدة التي فُرضَت عليهم مقابل توثيق حساباتهم والخدمات التي أمكنهم الحصول عليها، لكن ما قامت به "تويتر" مثلا، والتي تحولّت مؤخراً لتصبح "إكس كورب" كان صادماً للعديد من المستخدمين الذين حصلوا على شارتها الزرقاء بعد جهدٍ وعناءٍ يرونه كبيراً في حين تراه "إكس كورب" حفنة كلماتٍ لا قيمة لها ولا فائدة، غضبٌ مغلّفٌ بابتسامة المثقف نراها على استحياء في معرفات الكثير ممن كانوا أرباب الكلمة والرأي في "تويتر"، والذي أزيلت عنهم الشارة الزرقاء اليوم في حين يمكن لصاحب محتوىً ساخرٍ مليء بالنكات والمقالب الحصول عليها مقابل ثمانية دولارات شهريا، الأمر الذي جعل بعض المثقفين يصرحون بعدم حاجتهم للشارة رغم رغبتهم الشديدة في عدم ذهابها من أمام أسمائهم، تلك الشارة التي كانت في يومٍ من الأيام صفةً رسمية لجهد ذلك المثقف، بل وكان بعضهم لا يردّ أو يقرأ لمن لا يملكها، وكأنها نجمةٌ أو تاجٌ حصل عليه جنديٌّ رفيع المقام في موقعه العسكري الفذ، لكنها اليوم باتت غير ذات قيمةٍ كون الحصول عليها ارتبط بالدولار، وهنا أجد الأمر مضحكاً نوعاً مّا كوني أزعم أنني ضمن تلك الفئة التي تدعي جزءً من الثقافة، وأعرف سلوك كثيرٍ منهم، حيث أن مثقف هذا العصر مستعدٌ للعطاء في المجال الثقافي بكل ما أوتي من قوة، لكنه مستعدٌ لطرح كل ما قدّمه أرضاً ومغادرة أي منصةٍ هو موجودٌ بها في حين تحول نظر تلك المنصة لمحفظته، وهذا أمرٌ طبيعي لدى كثيرٍ من البشر ولا يقتصر على المثقفين فقط، لكن ذلك أيضاً حقٌ مشروع لأصحاب تلك المنصات التي تعمل ليل نهار لتوفير الخدمة، والتي تطلب مقابلها مالاً لتعويض الجهود التي تقوم بها لخدمة المستفيدين وتذييل الصعوبات أمامهم لتقديم نتاجهم الفكري لعامة البشر داخل مجتمعهم وخارجه، وهذا طرحٌ معقول نوعاً ما إلا أنه قد يكون مرفوضاً لدى المثقف الذي يمارس دوره المجاني لسنواتٍ من خلال معرّفه الخاص في هذه البرامج، ويرى أن من حقه ألا يدفع مقابل ذلك الاستخدام وإن آلت الأمور لترك الحساب وما فيه، في حين أنه قد يتقبّل أن يدفع ذات المبلغ الشهري أو ما يزيد عنه لقضاء نصف ساعةٍ في مقهى للتبغ، أو احتساء القهوة وتصويرها ونشر تلك الصور في ذات التطبيقات المُمتعَض من سلوكها المادي المقرف -حسب تعبيره-
أما عن رؤيتي المستقبلية لتلك البرامج، فإنني أرى في الأفق أننا مقبلون على عصر سندفع فيه قيمة المعلومة، وسندفع مقابل قراءة التغريدة ومشاهدة الصورة والاطلاع على الإعلان، وهذا لن يقتصر على بعض برامج التواصل الاجتماعي فحسب، بل سينتقل لكل خدمةٍ إلكترونية نسعى للحصول عليها، فالشركات والجهات الإعلانية وحتى معرفات المثقفين ستطالبنا بالدفع مقابل الاطلاع على ما يقدمونه من خدمات باختلاف حجمها وتوجهاتها، وستكون الحجة في ذلك أن الخدمات المفيدة لن تكون مجانية أبداً، و أن على المستفيد أن ينفق مما يملك ليحصل عليها، رؤية قد يراها بعضنا سوداويةً أو متشائمةً لكنها أقرب للواقع من أن تكون مجرد تكهنات.
وهذه الرؤية كانت نتيجة تساؤلٍ يراودني منذ أيام؛ هل أن خدمة برامج التواصل الاجتماعي ستستمر مجانية عدا ما قامت به سناب تشات وتويتر؟ لقد قادني هذا السؤال مباشرةً لبعض تصريحات "إيلون ماسك"؛ المالك الرسمي لشركة "تويتر" والذي نفهم منها أنه لم يكن الوحيد الذي طلب مالاً مقابل خدمات منصته ولن يكون الأخير، الكلمة الأخيرة هنا تشي عن مستقبلٍ مدفوع الثمن في كافة وسائل التواصل الاجتماعي المستخدمة اليوم، فهل سيبرر مستخدمو تلك الوسائل تركهم لها بأنها غير مهمة؟ أو سيجبرنا الزمن على الاستمرار بها مقابل دفعنا لرسوم تتراوح بين ثمانية أو أكثر من الدولارات شهرياً لكل تطبيق كي تبقى حساباتنا فاعلة، واتصالاتنا قائمة، وتجارتنا وإعلاناتنا ظاهرة؟ اختيار الإجابة على هذا السؤال أتركها بين أيديكم وسنراها في قابل الأيام إن شاء الله وعشنا لنرى..