كفالةُ قِطّة
لا شك أن السعي في تقديم الخير لن يُنقِص مما لدينا شيئاً، بل ربما يزيده ويُثريه، هذا ما لا يظنه الماديون الذين يعيشون على مبدأ واحد زائد واحد يعني اثنين، هم لا يعلمون أن قاعدتهم المذكورة قد ينتج عنها رقماً فردياً مضاعفاً لسبعة أضعاف بتصنيف آخر لا يفقهون حكمته، وربما يعلمون لكنهم قد يعيشون غفلةً كبيرةً عن استيعاب هذه المعادلة، مثل هذه المعادلات يراها كثيرٌ منا خلال أيام حياته اليومية وقد يروي بعضنا ما شاهد في حين يتجاهل معظمنا كثيراً من تلك المشاهدات.
قبل ما يزيد عن العشرين عاماً تلقيتُ اتصالاً من زميلٍ لي يسألني المساعدة لإتمام طلب تسجيل ابنه في الجامعة، كان ذلك أثناء عملي في قسم عمليات شبكة التوزيع بالشركة السعودية للكهرباء، وكنت موجوداً على رأس العمل في نوبة أول الليل حسبما أذكر، دخل زميلي وبيده رزمة أوراقٍ أظنها وثيقة التخرج وبعض الأوراق الثبوتية لابنه، من ناحيتي وبعد ترحيبي به وتقديم ضيافته؛ شرعت في ملء طلب التسجيل على شاشة جهاز الحاسوب وبدأت بكتابة اسم الطالب (مشاري)، لكنني فوجئتُ بابتسامة زميلي الذي قدم لي بطاقة هوية ابنه وقد كُتِب أعلاها (عبدالجبار)، لم أعلّق بأي كلمةٍ حينها واستكملتُ الطلب حتى انتهيت منه، وقبل شكر زميلي لي باغتُّه بسؤالي عن قصة (عبدالجبار) هذا وكيف تحول اسم ابنه إليه فجأة؟ ضحك زميلي طويلاً ثم قال بأن (عبدالجبار) ليس ابنه البيولوجي، استنكرتُ ذلك بل ورفضتُ إجابته التي ظننتها مزاحاً، فالشبه الغريب بينهما يجعل من المستحيل أن يكون ذلك الفتى غير ابنه الحقيقي، عاد زميلي ليضحك مرةً أخرى ثم بدأ بسرد قصته العجيبة.
أخبرني أنه تزوج مبكراً لكنه لم يحظ بنعمة الذرية رغم مراجعاته الكثيرة لعدة مستشفيات، وأنه أجرى العديد من الفحوص والكثير من التحاليل التي أفادت جميعها بأنه لا يمكن للطب مساعدته في مسألة الإنجاب لوجود مشكلةٍ تكوينية لديه هو، الأمر الذي أحزنه في البداية وجعله يناقش امرأته في مسألة الانفصال، كونها تستحق أن تعيش أمومتها مع زوجٍ يستطيع المساهمة في تحقيق ذلك لها، لكنها أي امرأته؛ رفضت أن تنفصل عنه وآثرت أن تقضي حياتها معه دون ذريةٍ على أن تعيش مع رجلٍ آخر يحقق لها ذلك، وهنا تأزّمتْ الأمور أكثر فقد وقع زميلي في حفرة اللوم لنفسه لعدم قدرته على تحقيق ما يُدخل السرور على قلبه وقلب امرأته الشابة، وبعد طول تفكيرٍ وسؤالٍ وصل لحلٍ أشار عليه به أحد معارفه، كان الحل الوحيد أمامه هو كفالة يتيمٍ يربيه فيتخذ منه ربيباً يعينه كابنه، كان ذلك القرار المصيري باعثاً للسرور في قلب امرأته لدرجة أنها أثارت الحماسة في نفسه ليبدأ التفتيش سريعاً والبتّ في الطلب مباشرة، الغريب فيما ذكره صاحبي أنه ذكر اسم زميلٍ آخر يعمل معنا في ذات الدائرة، ذلك الزميل ابتُليَ أيضاً بذات المشكلة وقد أشار عليه صاحبي بالحل الذي توصّل إليه لكنه رفضه معلِّلاً أنه غير مستعدٍ للنفقة على أبناء الغير كي يشعر فقط بمشاعر أبوّتهم، ذلك الرفض لم يقلل من عزيمة صاحبي وامرأته اللذَين تجشّما عناء السفر للوصول أخيراً إلى دار أيتام في منطقةٍ بعيدةٍ وطلبا إدراج اسميهما ضمن قائمة الراغبين بالكفالة، وكان قدَرُ صاحبي جميلاً إذ أخبرهما مدير ذلك المركز بوصول رضيعٍ يتيمٍ مات أبواه الأجنبيان في حادث سيرٍ وأنه باستطاعتهما رؤيته، كانت فرحة صاحبي وامرأته كبيرةً جداً برؤية ذلك الرضيع الذي لم يتم شهره الثاني حينها، فقبلا على الفور لتبدأ رحلة ملء نماذج الكفالة واحتضان تلك الهبة الربانية.
حصل الزوجان على ربيبهما خلال شهرٍ من المراجعات والمقابلات مع الأخصائيين الاجتماعيين، وعادا به إلى بيت الزوجية وأطلقا عليه اسم (مشاري)، لكنهما كانا أمام مشكلةٍ مع عائلتيهما، فبعض أبناء عائلتهما طالبوا بإعادته إلى حيث تمّ التقاطه وأنهم لا يرغبون في إضافة مخلوقٍ نكرةٍ إلى مجتمع الأسرة، فهذا الوليد سيكبر وستكبر معه أخلاقه وعادات وتقاليد المجتمع الذي أتى منه، بالإضافة لكون ذلك الأمر يُعدّ سابقةً لم تحصل قبلاً ولا يُراد لها أن تحدث في مجتمع العائلة، وهنا كانت الحيرة القاتلة بعد أن تعلّق قلب صاحبي وامرأته بذلك الوليد، لذا كان لزاماً عليه السؤال للحصول على حلولٍ ترضي جميع الأطراف وتضمن عدم خدش تلك العادات المجتمعية وربما الدينية فيما بعد، وكان الحل الذي أشار به عليه إمام جماعة مسجد الحي بأن تقوم أخوات امرأته المتزوجات بإرضاع الصغير، كما تفعل أخواته هو ذات الأمر، وذلك ليضمن حليّة اطلاعه على نساء عائلته عندما يكبر، وقد فعل ذلك كما أشار إليه الشيخ، فكان يودِعُ الطفل لدى كل امرأةٍ ما يزيد على الأسبوعين لترضعه حتى الإشباع، فأصبح لذلك الوليد ما يزيد عن المرضعات الست اللواتي تحوّلن لأمهاتٍ له بعد ذلك، كل مرضعةٍ أحبّت ذلك الوليد وكأنه ابنها وغبطت امرأة صاحبي على حصولها عليه، وبعد أن أتمّ الطفل عامه الثاني بدأت ترتسم عليه ملامح العائلة بل إنه بدأ يشبه صاحبي كثيراً حتى أن أبناء عائلته نسوا مسألة الكفالة تلك من شدة ما تحولت ملامح المكفول لتقاسيم وجه أبيه الكافل.
في تلك الأثناء قرر صاحبي وامرأته العودة لذات مركز الأيتام، لكن ليس لإعادة (عبدالجبار) بل لتقديم طلب الحصول على كفالة طفلةٍ أنثى، ومرةً أخرى كان القدر السعيد مكتوباً لصاحبي إذ أن طلبه كان متوفراً، فالطفلة العراقية الأصل والتي لا يزيد عمرها عن الأشهر الثلاثة كانت ضمن قائمة كفالة المركز، ولم تطل الإجراءات هذه المرة كون صاحبي بات معروفاً لدى المركز ومشهوداً له بطيب السريرة والأخلاق الحسنة وحسن الكفالة.
مرّ أسبوعٌ قضاه صاحبي وامرأته في أحد الفنادق الصغيرة منتظراً الإجابة التي ما فتِئت أن زُفّت إليه بالموافقة على طلبه، ليعود إلى بيته حاملاً تلك الطفلة الصغيرة ويبدأ رحلة إرضاعها مجدداً كما فعل مع (عبدالجبار) الذي تحوّل من حالة اليتم ليحصل على أختٍ تعينه على الدنيا ويكون لها سندا.
بعد رواية صاحبي لقصته العجيبة، أخرج من جيبه صورةً لطفلين صغيرين هما (مشاري) وأخته، نظرتُ إليها وأنا أردد عبارة (سبحان الله)، فالشبه الكبير بين الطفل وأخته، والشبه الملحوظ بينهما وبين تقاسيم وجه صاحبي تدعو للسجود لله على ذلك المستحيل الذي حصل بلطف الله وحكمته.
اليوم أكتب هذا المقال وأذكر دعوة صاحبي لحضور حفل زفاف ابنه (مشاري) الذي يعمل في شركةٍ مرموقة، كما هو حال أخته التي تزوجها أحد أبناء عائلة صاحبي لاحقاً وأنجبتْ الأحفاد لتكبر الأسرة وتزدهر، وعاد الخير الذي قدّمه صاحبي وامرأته لكفالة ذينيكَ اليتيمين على العائلة التي تعيش سعادتها ونعمتها التي تستوجب الشكر لله على جزيل عطائه، أما عن زميلنا الذي رفض الأمر معللاً عدم استعداده للإنفاق على أبناء الغير؛ فهو يعيش وحيداً بعد وفاة امرأته وقد أخذ منه الكِبَرُ مأخذه، جمع الكثير من المال حتى تقاعد واختفى عن الأنظار، يقول صاحبي أنه قد تواصل معه منذ فترةٍ فعلم منه أن قد جمع عدداً من القطط في منزله وبدأ بصرف أمواله على إطعامها وتربيتها ليأنس بوجودها الذي يكسر صمت حياته وحيداً بلا زوجٍ ولا ذريّة.
عبدالعزيز الجاسم
30 يوليو 2022م