صناعة الهدايا ليست ترفاً ..
في هذه الأيام السعيدة، يُسعدني أن أعبر عن أعمق التهاني، وأطيب التمنيات لمقام خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين حفظهما الله ، وجميع القائمين على خدمة الحجيج والوطن السعودي أجمع، بمناسبة عيد الأضحى المبارك ونجاح موسم الحج الذي شهد توافد 1.8 مليون حاج لأول مرة منذ 3 أعوام وفقًا لتصريحات وزير الحج والعمرة، بعد عودة أعداد الحجاج لمستويات ماقبل جائحة كورونا، فإدارة هذا الحدث الضخم والفريد من نوعه عالميًا، يُعد تحديًا هائلاً يتطلب التخطيط المُبكر والجهود المشتركة بين كافة مؤسسات الدولة الكريمة ، لضمان سلامة حجاج بيت الله الكرام، ونجاح هذا الموسم بمثابة إنجاز عظيم، يعكس التزام ورؤية القيادة الحكيمة في رعاية حجاج بيت الله، الذين يأتون من كل فج عميق لأداء هذا الركن الأعظم، في حالة من الأمن والأمان والصحة والراحة.
ولك أن تعلم أن هناك عدة جيوش من الكوادر الطبيبة والأمنية والدعوية، تعمل بتعاون تام، لكي يخرج موسم الحج بهذا الشكل الرائع، والذي لاقى استحسانًا وإشادة من كافة دول العالم ، فلقد بلغت أعداد القوى العاملة المشاركة في خدمة ضيوف الرحمن قرابة ال 300 ألف كادر، وقد نجحت بحمدالله الخُطط الصحية في خلو موسم الحج من أي تفشي للأمراض، أو مهددات على الصحة العامة، وهذا الأمر لم يأتِ من فراغ، بل من خلال عمل دؤوب مستمر لا ينقطع من الجيش الأبيض، فاستعدت المنظومة الصحية بأكثر من354 منشأة صحية عبر جميع القطاعات الصحية؛ لتقديم الخدمات لضيوف الرحمن من خلال 36 ألف من الكوادر الصحية، ساندهم فيها أكثر من7600 متطوع، وبلغ عدد الحجاج الذين تلقوا الخدمات الصحية أكثر 400 ألف حاج، كما تم إجراء أكثر من 50 عملية قلب مفتوح، وأكثر من 800 قسطرة قلبية، إضافة إلى ما يزيد عن 1600 جلسة غسيل كلوي، مع تقديم خدمات افتراضية عبر مستشفى صحة الادإفتراضي لأكثر من 4000 حاج، والتعامل مع أكثر من 8000 إصابة متعلقة بأشعة الشمس وارتفاع درجة الحرارة، وأسهمت الجهود التوعوية الاستباقية في الحد من زيادة عدد الحالات وفقًا لموقع سكاي نيوز.
ليس هذا فقط، بل قامت وزارة الشؤون الإسلامية بجهد ضخم، لتسهيل أداء المناسك لدى حجاج بيت الله الحرام، وفي هذا الإطار تم تكليف أكثر من 7200 من الكوادر الوطنية من منسوبي ومنسوبات الوزارة لخدمة الحجاج، وتكليف 1300 داعية للعمل على مدار الساعة خلال موسم الحج لتنفيذ أكثر من 200 ألف منشط دعوي خلال الموسم، وتوفير خدمة المكتبة الإلكترونية التي تقدم أكثر من 1000 مادة علمية وإرشادية وبأكثر من 40 لغة عالمية في هذا العام، وتوزيع ملايين النسخ من القرآن كهدية من خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه لكل حاج، بالإضافة إلى ترجمة كلمات القرآن الكريم بأكثر من 76 لغة عالمية، وتجهيز المواقيت ومناطق المشاعر المقدسة بأكثر من 1000 مسجد، وتوفير 32 مليون خدمة توعوية بأكثر من 40 لغة، كما كان بناء 75 مسجدًا وجامعًا بمكة المكرمة بتكلفة بلغت ربع مليار ريال، وفُرِش نصف مليون متر من السجاد الفاخر لكافة مساجد منطقة المشاعر المقدسة والمواقيت، من عوامل نجاح خطة تصعيد الحجاج إلى مشعر عرفات، بنسبة التزام تجاوزت 98%، لأكثر من 1.8 مليون حاج قَدِمُوا من أكثر من 150 دولة، وفقًا لتصريحات وزير الحج والعمرة، وشهد حج هذا العام ترجمة خطبة عرفة لعشرين لغة عالمية، لتصل إلى أكثر من نصف مليار مستفيد لأول مرة في تاريخ رئاسة شؤون الحرمين، وفقًا لتصريحات الرئيس العام لشؤون الحرمين.
وشمل موسم الحج هذا العام، استخدام تقنيات جديدة لأول مرة، حيث بدأت الهيئة العامة للنقل تجربة الحافلات الترددية ذاتية القيادة، لخدمة ضيوف الرحمن، وتستخدم الحافلات ذاتية القيادة، تقنيات الذكاء الإصطناعي والكاميرات والحساسات المحيطة للقيادة دون تدخل بشري، ضمن مسار محدد، حيث تقوم بجمع المعلومات خلال الحركة وتحليلها لاتخاذ القرارات اللازمة؛ بهدف تحسين تجربة الركاب وضمان السلامة الحيوية، وتتسع الحافلة الواحدة لـ11 مقعداً، وتسير 6 ساعات في الشحنة الواحدة، وتصل سرعتها إلى 30 كم في الساعة، بالإضافة لإستخدام تقنية حديثة لخفض درجة الحرارة، من خلال طلاء الأسطح الإسفلتية، وتعمل التقنية الحديثة على زيادة مستوى التبريد للمناخ، حيث يسهم الطلاء الأبيض في خفض درجة حرارة السطح بحوالي 30 درجة مئوية، باستخدام عدة مواد محلية الصنع لها القدرة على امتصاص كمية أقل من الأشعة الشمسية، وشهد أيضًا حج هذا العام لأول مرة استخدام طائرات "الدرون" لفحص الطرق في المشاعر المقدسة، وتقييم شبكة الطرق في المشاعر، بهدف التأكد من سلامة وجودة الطرق المؤدية للمشاعر، حيث تعمل هذه التقنية بشكل حراري لرصد الملاحظات على شبكة الطرق، بالإضافة إلى دور هذه التقنية في فحص العَبّارات والجسور بشكل آلي وسريع ودقيق، استخدام التقنيات الجديدة لم ينتهِ بعد، فهناك خدمات ابتكارية جديدة اُستخدمت للمرة الأولى في موسم الحج مثل "مكانس التطهير الذكية" التي تعمل بشكل يدوي وإلكتروني، وتغطي مساحة 180 متراً مربعاً، بقوة شفط 2000 باسكال.
وفي نهاية موسم الحج، أدعو الله عز وجل أن يُوفق حجاج البيت الحرام، وأن يتقبل منهم طاعاتهم ويعودون بالأجر والثواب إلى ديارهم، محملين بما يرغبونه من هدايا إلى الأهل والأصحاب الذين يأتون لزيارتهم والمباركة لهم على أداء الركن الخامس، ولكن للأسف معظم هذه الهدايا مستوردة من الخارج، فتوطين صناعات هدايا الحجاج والمعتمرين ليس ترفاً مثلما يعتقد البعض، فهذه الهدايا تشكل جزءًا رئيسيًا في الرسالة الثقافية والتوعوية في وجدان الشعوب، خاصة وإن كانت هذه الهدايا قادمة من مكان يتعلق به قلوب مسلمي العالم أجمع، ألا وهو مكة الحبيبة، ويُقدر الخبراء الإقتصاديين حجم إنفاق الحجاج على شراء الهدايا التذكارية بـ 10 مليار ريال سنويًا وفقًا لصحيفة المدينة، ولكن للأسف سيطرت بضائع "صنع في الصين" على سوق الهدايا، فلُعب الأطفال وحتى السبح وصولاً إلى مجسمات الحرميين مستوردة من الصين، فيكفي أن تقوم بجولة داخل الأسواق الشعبية، أو حتى المراكز التجارية الكبرى، لتجد معظم الهدايا، إن لم يكن كل الهدايا التي يرغب الحجاج في شرائها مستوردة من الصين، وهو ما يعد خلل اقتصادي، يجب أن نتداركه، من خلال إعداد دراسة لتصنيع هذه الهدايا، ورفع شعار "صُنع في السعودية".
صحيح أن مبادرة "صُنع في مكة"، أُطلقت لتصنيع مثل هذه المنتجات، ولكنها لم تنجح لأسباب عديدة منها المنافسة الشرسة مع المنتج المستورد، فسعر سجادة الصلاة المحلية يقدربـ50 ريالاً، بينما السجادة المستوردة تتراوح ما بين 10 لـ15 ريالاً وفقًا لصحيفة المدينة، وبالتالي يلجأ الحجاج بصورة مباشرة إلى شراء المُنتج المستورد، ولذلك هناك ضرورة لدراسة فشل هذه المبادرة، والعمل على إزالة كافة العوائق، لكي تنطلق الصناعة المحلية في هذا المجال بقوة، فقد يكون الحل في فرض رسوم إغراق على المنتجات المستوردة، بما يُعزز من منافسة المُنتج المحلي، وقد يكون الحل في العمل على خفض تكلفة المنتج المحلي من خلال تقليل مدخلات الإنتاج، أو تدريب العمالة لكي تمتلك المهارة اللازمة لإنتاج أكبر عدد ممكن بأقل جهد وأقل تكلفة، وخلافه.
وأخيرًا وليس آخرًا، فلدي أمل أن تكون هذه الهدايا في الأعوام المقبلة، عبارة عن رسول من المملكة لكل دول العالم عن الصناعة السعودية ، وجودتها وكفاءتها ، فهذه الهدايا من الممكن أن تُسوق للصناعة السعودية في كافة بقاع العالم ، وهذا الأمر ليس صعبًا ، فتصنيع هدايا الحجاج المتمثلة في السبحة وسجادة الصلاة ، ومجسمات الحرميين ولعب الأطفال أمر ممكن ومتاح وسهل، وليس في حاجة إلى عبقرية، ولكنه في حاجة إرادة.
وكل عام وأنتم والامة الإسلامية أجمع بكل خير .
الكاتب /
أ.د محمد احمد بصنوي