سلسلة مبادرة لا نهضة الا بالصناعة 3
بقلم : أ.د محمد احمد بصنوي
" كلمة السر لتقدم الدول ... الصناعة "
تواجه الصناعة العديد من التحديات من بينها هجرة الأموال إلى الخارج التي تقدر بـ 2.65 تريليون ريال، وفقا لتصريحات عضو مجلس الشورى الدكتور عبدالله الحربي، وهذه الأموال معرضة للتجميد بسبب نظرة الشك والريبة من قبل الجهات الأمنية في الولايات المتحدة وأوروبا، فالمستثمر العربي بشكل عام مشكوك في تمويله للإرهاب، ما لم يثبت عكس ذلك، ولذلك هناك تخوف من تجميد هذه الأموال في أي وقت، والتهمة جاهزة بكل تعسف أو مسببات ، ولذلك فلا بد من عودة هذه الأموال إلى البلاد في أسرع وقت واستخدامها في الصناعة لتعزيز النمو الاقتصادي قبل أن تتحول إلى هباء.
ويرى خبراء الاقتصاد أن الطريقة الوحيدة لعودة الأموال من الخارج هي تحسين مناخ الاستثمار، وهذا لا يعني إصدار قوانين مشجعة للاستثمار فحسب، بل يجب السعي لمنافسة الدول في جذب الاستثمار الأجنبي، وهذا من خلال مراجعة الحوافز والمزايا التي يتم منحها للمستثمر ومضاهاتها بما تمنحه الدول الأخرى، ويتضمن ذلك توفير الاستقرار بتشريعات وآليات تنفيذية مرنة، وذلك في إطار متوازن يجذب رؤوس الأموال، ويراعي المصالح الوطنية في نفس الوقت.
إن الأزمة الحقيقية التي تواجه الصناعة هي وجود بعض المعوقات التي أدت لتعثر ألف مصنع وفقا لدراسة وزارة التجارة والصناعة، وترجع هذه المعوقات إلى النظام الإداري المتبع بهذه المصانع، وعدم كفاية البحوث المعنية بتحديد الأسواق المستهدفة للتصدير، وهو ما يستوجب ضرورة القيام ببحوث لتحديد الأسواق المستهدفة، وتعيين أفراد لهم خبرة لتوجيه وإدارة عمليات التصدير، خاصة أن العديد من الشركات في الخارج تفضل التعامل مع المصانع الحائزة على شهادات خبرة عالمية، إضافة إلى اختلاف الأذواق، فما هو مقبول للمستهلكين لدينا قد لا يكون مقبولا لدى بعض الدول، كما أن هناك ضرورة للعمل على تأهيل قيادة المصانع، وهذا هام للغاية ليس فقط لتطوير الصناعة والصادرات، ولكن أيضا في استدامة المصانع ومساعدتها في المنافسة العالمية.
قد يكون عدد المصانع المتعثرة أكثر من ذلك بكثير، خاصة أننا مجتمع يخجل من الإفصاح عن أنه متعثر، وطريقة التعامل مع هذا الملف أقل ما توصف به أنها متخبطة ومرتبكة، بعد أن تم النظر إلى المصانع المتعثرة على أنها طفل خطيئة، والحل يحتاج من الجميع الشفافية والمصداقية والجدية والتعاون، ووضع مصلحة الوطن فوق أي اعتبار، وهو ما يتطلب تشكيل جهاز إداري يتصف بالشمولية، أعضاؤه من الوزارة المعنية ولديه الصلاحيات الكاملة لحل جميع المشاكل التي تواجهها هذه المصانع في وقت قياسي قصير، وهو ما سيعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، والمستثمرين أصحاب المصانع، ويمنع تسريح العمالة الوطنية.
لسنا وحدنا من واجهنا المصاعب أثناء التنمية الصناعية، فسنغافورة - على سبيل المثال لا الحصر - بعد أن وضعت برنامجا شاملا للتصنيع، واجهت مشكلة كبيرة تتمثل في عدم وجود إرث صناعي لها من قبل، حيث إن معظم سكانها لم يكن لديهم أي خبرة في الصناعة، إضافة إلى ندرة مواردها فليس لديها نفط أو معادن أو أي شيء يذكر، فلك أن تعلم أن سنغافورة تستورد كل شيء حتى الرمال لاستخدامها في البناء.
لقد كانت سنغافورة في الستينات بلدا متخلفا يعيش 70% من سكانه في مناطق مزدحمة، وثلث الشعب يفترش الأرض، ونصف سكانه يعاني من الأمية، لكنها من خلال الصناعة التي تمثل كلمة السر لتقدم الدول استطاعت أن تصبح من العالم المتقدم، فالصناعة لديها أهمية كبيرة، فالولايات المتحدة سيطرت على العالم من خلال الصناعة، وليس بحاملات الطائرات كما يزعم البعض، ونحن لا نريد أن نسيطر على أحد، بل نريد أن نشارك في الحضارة العالمية ونعامل العالم بندية ونحقق الرفاهية لشعوبنا.
إن سنغافورة اعتمدت في البداية على بناء قاعدة للصناعات البسيطة، مثل النسيج والملابس والمواد البلاستيكية، وكانت المدخرات الوطنية هي الممول الأساسي لهذه المرحلة، ثم عملت على استقطاب الاستثمارات الأجنبية بعد أن قامت بالقضاء على البيروقراطية، مستغلة في ذلك أن دولا مثل الصين والهند وإندونيسيا كانت لا ترحب بالاستثمارات الأجنبية بسبب توجهاتها القومية، وبعد ذلك قامت بتعزيز القيمة المضافة لمنتجاتها من خلال التحول من الصناعات البسيطة بشكل تدريجي إلى الصناعات المتطورة كالالكترونيات، وأصبحت من أسرع الاقتصاديات نموا في العالم، مما جعلها سادس أكبر معدل للناتج المحلي للفرد في العالم.
ولك أن تعلم في بداية الثمانينات أن متوسط دخل الفرد في سنغافورة كان لا يتجاوز 340 دولارا، في الوقت الذي كان دخل الفرد في المملكة يتجاوز 12 ألف دولار، ووفقا لمجلة الإيكونوميست الاقتصادية فقد قفز دخل الفرد في سنغافورة إلى أكثر من 55 ألف دولار، في نفس الوقت الذي بلغ فيه متوسط الدخل في المملكة نحو 24 ألف دولار، وهو ما يعني أن دخل الفرد في المملكة تضاعف مرتين فقط منذ الثمانينات لارتباطه بسعر النفط، بينما تضاعف دخل الفرد في سنغافورة 161 مرة خلال نفس الفترة الزمنية، وهو ما يشير إلى حجم المعجزة الصناعية التي تحققت هناك.
إن المقارنة بيننا وبين سنغافورة هي مقارنة «ظالمة» من حيث البدايات والظروف والصعوبات، فنحن لسنا بلدا بلا موارد أو ثروات أو نصف سكانه أمي، أو بلدا صغيرا مثل سنغافورة تستطيع خلال نصف ساعة أن تستغرقه بسياراتك، وإذا زادت سرعتك عن 100 كلم في الساعة ستجد نفسك في ماليزيا، ورغم ذلك لم نحقق ما حققته سنغافورة من معجزة اقتصادية بكل المقاييس، إلا أننا بلد لديه الموارد المالية والبشرية والطبيعية التي تمكنه متى توفرت الإرادة أن يستغرق نصف زمن الرحلة التي استغرقتها سنغافورة من التحول من بلد نام متخلف يستورد كل شيء، إلى بلد متقدم ينتمي إلى ما يسمى بالعالم الأول.