الكاتبة - سميرة عبدالهادي
كانت ليلة باردة، فقد غطى الثلج بمعطفه الأبيض جميع الأرصفة والطرقات، وسكون أرخى سدوله ليحتضن الآهات والهموم. وليل مبتسم يعزف بنسماته الباردة على أوتار القلوب لحنًا ليخفي ضجيج الحكايات وتصارع الحنين والشوق، ويطبب آنين الذكريات. كانت الهمسات تحلق دون توقف، أشعر بحروفها تخترق كل الجدران بهدوء وتسكن بقلبي. حينها سكت الصمت وانطلقت الكلمات تداعب الروح والجسد وتنعش القلب الذي أرهقته المواقف وتقلبات البشر. أغمضت عينيّ لعلي أتنفس بعضًا من التجاهل، فشعرت بتساقط تلك الكلمات، فعاد الصمت ليعبر عن أجوبة صادقة لم تسعها الحروف.
طال الليل فتصدعت الجدران من البرد القارس، فأشعلتُ المدفأة لتدفئها. أيقنتُ حينها أن تلك التصدعات والشقوق ليست بالجدران بل بقلبى الذي تحولت أعماقه لمحطات تعبث بها الأيام وأنا أقاوم بصمتي تلك الأوجاع والمواقف والأعاصير التي أصبحت جزءًا مني. تعصف بي وأتعثر بها تارة وأسقط بها تارة أخرى. في كل فصل من فصولي، سمعت طرقًا على الباب.
اختلست النظر من خلال تلك النافذة وأنا اهمس لنفسي: من يكون ذلك الزائر الذي اقتحم سواد الليل ويريد أن يكون تحت العواصف والثلج غير مكترث بالموت؟ فإذا به يضم معطفه ويلملم ما تبعثر من أوراقه وهو يرتجف من شدة البرد. بمجرد فتحي للباب، هرع مسرعًا ليسترق بعضًا من الدفء.
بجانب تلك الزاوية، هناك مقعدان وطاولة يتوسطهما كوب قهوة، وأوراق وأقلام، حروف مبعثرة وكلمات تريد من يعيد لها النغمات.
تبادلنا النظرات والأحاديث، فذهبت الأوجاع وزالت الهموم، وفرح القلب واحتضن الشوق. شعرت بأن العالم بين ذراعي. وددت أن تدوم تلك اللحظة، فالأمس يموت والغد لا يأتي، وعقارب الساعة تتوقف. الليل يغط في سبات عميق، والشمس تتوارى خلف الأفق البعيد. استوطن ذلك اللقاء ثنايا الذكريات، فأثلج الصدر وبعث في القلب الضياء ورسم البسمة على الشفاه، ولمعت العيون ببريق الأمل والسعادة تعزف على أوتار القلب أعذب الألحان. حينها همست لنفسي: هل عادت الروح للجسد بعد انفصالها عنه؟ وأشرق الوجه بعد شحوبته وعادت دقات القلب تنبض بالحياة.
اختلست نسمات الفجر ذلك الزجاج وحان وقت رحيل زائر الليل. فيا من كان لقاؤك الأول بداية الحياة، هل بعد وداعك سيكون لنا لقاء؟ .
الكاتبة/
سميرة عبدالهادي