قناع مستعار ...
قادتني قدماي للجلوس على أحد المقاعد بإحدى الطرقات ، فأخذت أتامل في وجوه المارة وسألت نفسي هل حقا تلك الملامح اللتي أراها عليهم تعكس ما بداخلهم ..؟ فإذا بذلك الرجل يجلس أمامي ، نظرت إليه فإذا به تبدو عليه علامات القوة والثبات ، وما هي إلا دقائق حتى بدأ يلتفت يمنة ويسرى ، ويهز إحدى قدميه بارتباك ، يضع يده على جبينه تارة ويقضم
أظافره تارة أخرى ظل لفترة على هذا المنوال ، كنت أنظر إليه بتعجب وأهمس لنفسي ، مالذي يجعله على هذه الحال ، برغم ملامح القوة والثبات التي تبدو عليه ، فإذا به يقف فجأة ويرتب ثيابه ويسير بخطوات ثابتة على عكس ما رأيته عليه ، ظللت أنظر إليه إلي أن إختفى بين العامة ، وعندما إعتدلت بجلستي إذ بتلك السيدة تجلس على نفس المقعد ، وبدت على ملامحها علامات الهدوء والسكينة فإذا بها تضع حقيبتها بين ذراعيها ، وأخذت تفتش بداخلها وكأنها تبحث عن شيء فقدته ، ثم بدت عليها علامات الإزدراء ، فنظرت إليّ وتبسمت ، بدوري بادلتها نفس الإبتسامة ، ثم أخرجت كتاباً وبدأت بقراءته ، وفي تلك الأثناء لفت انتباهي تلك الفتاة التي تقف تحت تلك الشجرة ، وهي تتشاجر مع أحدهم من خلال هاتفها ، وتنهمر دموعها بغزارة ، وعندما إنتهت جففت تلك الدموع ، وسارت وهي تحاول إخفاء ذلك الأسى الذي بدى عليها برسم إبتسامة مصطنعة على شفتيها ، أيقنت حينها أن تلك الملامح التي نراها ليست دليلا على هوياتنا من الداخل ، فلكل منا حكاية يعيشها ، جزءاً منها لا يراه غيرنا ، والآخر يظهر رغما عنا مهما حاولنا كتمانها ، لذا تكون تلك الملامح أشبه بقناع نضعه على وجوهنا لنخفي تلك الندوب التي دفنت في أعماقنا والتي تستثار عند حدوث موقف مؤلم لتحيا من جديد ، فكم من قوي بملامحه أخفى حزناً ووجعاً أدمى قلبه ، يريد الصراخ والبكاء ولكن محاجر عينيه قد جفت ، ولسانه قد ثقل ، لم يستطع رسم الإبتسامة ولكنه نجح في إخفاء ما يشعر به عن الجميع بتلك الملامح ، بل وانغمس بذاته ، مُتبلد الإحساس ، عاجزاً عن البوح بذلك الضجيج الذي هز كيانه ، وجعله يعيش في بحر عميق غاضب تتلاطم به الأمواج ، لأنه على يقين بأنه لن يشعر بألمه أحد ولن يفهم حجم وجعه ومعاناته سواه.وكم من هادئ الملامح رضي بالعيش على هامش الحياة ، رضخ لواقع مرير حاول تغييره مراراً ، ولكن جميع تلك المحاولات باءت بالفشل ، فأعلن استسلامه و رفع الراية البيضاء ، تجرد من أحلامه وآماله بل و فقد شغفه بالحياة وأصبح تابعا منصاعاً للظروف المحيطة به ، وتساوت جميع الأمور أمام عينيه ، فلم يعد ينتظر حدوث أي شيء ، وأصبح التجاهل واللامبالاة سلاحه القوي ، لأنه بنظره لم يعد بيده تغيير ذلك الواقع الذي فرض عليه رغما عنه ، حينها تبسمت وعلمت أنه لست أنا لوحدي من إرتدى ذلك القناع الذي يُخفي هويتي الداخلية ، وتابعت السير للأمام ..
الكاتبة / سميرة عبدالهادي