الجمعة, 27 سبتمبر 2019 05:35 مساءً 0 997 0
سناء .. خمس وعشرون خريفاً ميّتة في دنيا الأحياء
سناء .. خمس وعشرون خريفاً ميّتة في دنيا الأحياء
لقد حباني الله بخمس أخوات من أبي رحمه الله وكنت الوسطى بينهن ترتيباً وسناً ورغم ذلك كنت أكثر حرصاً للتقرب والتودد للكبيرات منهن دون اهتمام بالأصغر سناً مني ،واظنه طبيعة النفس البشرية ولعلّها مثبتة بنظريات في علم النفس البشري أن الإنسان يلهث خلف تعزيز علاقته مع الأكبر سناً أو الأكثر خبرة وحِكمة . وقد كانت أختي سناء بعدي في الترتيب والسن بأربع سنوات ولها محاولات للتقرب مني ولكني كنت أكثر انشغالاً بعلاقتي مع الأكبر سناً مني ، و كنت ألحظ ارهاقاً وشحوباً يعتريها وجسدها مصاب بنحافة شديدة حد الهزال واتعجب من أصابع يديها الغريبة والمختلفة عن الطبيعي واستغرب أكثر إذا تحمست باللعب واللهو مع أصغر أخواتي يتحول لون وجهها إلى اللون الأزرق وتصاب بنوبة من السعال المتسارعة والتي لا تتوقف إلا أخذت جرعة من بخاخ الربو أو كمامة الأكسجين كل ذلك يحدث لها وهي مبتسمة مع كل هذه الاستفهامات والتساؤلات عندي لم أحاول ولو مرة أن أسألها أو أسأل والدي رحمه الله بل أواجهها داخلياً بلا مبالاة وبرود أتعجب له الآن .. لعل سببه هو سذاجة الفكر آنذاك واعتقادي انها ستتخلص مما تعانيه وكأنها فقط مسألة وقت وقد كان ولكنها لم تشفى . ورغم شحوبها وضمورها إلا كانت تملك وجه ملائكي ولا علاقة له بجسدها بل كأنه لجسد آخر غير جسدها النحيل والمريض . تزوجتُ وفارقت بيت ومدينة أهلي وابتعدت حياتي عن حياة أخواتي كلهن وعند التواصل هاتفياً مع أهلي فلا أُهدر دقيقة للسؤال عن أحد فقد شُغلت بالتشكي من أعباء الزواج ومسئولية الإنجاب وتكاليف عملي حديثاً وتقلبات الحياة الجديدة وإذا زرت أهلي أراها فرحة بمقدمي إليهم مستبشرة رغم هزالها المتزايد ورغم لا مبالاتي اندهشت عندما أُخبرت قسراً أن سناء بكت ليلة زواجي حزناً لفراقي حينها شعرت بتأنيب يطرق ضميري طرقاً مزعجاً فلم اهتم سابقاً أن اشعرها بدفء مشاعر الأخوة وتحت وطأة هذا الطرق وبدون تردد سألت والدي رحمه الله عن حالة سناء وكانت الصدمة عندما علمت بمعاناتها مرض خلقي يتعاظم ويزداد كل ما زاد عمرها ومصيرها بالنهاية فهو مرض لا يمكن الشفاء منه وهو قد نهش رئتيها ولم يتبق منها إلا القليل . في البداية قاوم عقلي قبول مرضها المميت وكره قلبي الاعتراف والاستسلام لفكرة موتها بسبب هذا المرض والأسوأ أنه زادت وطأة تأنيب ضميري تجاه أختي سناء جعلني استجر ذكريات الماضي واجمع شواهد لمواقف يؤكد خطورة مرضها وخلال سنوات قليلة تدهورت حالتها حتى أصبحت الكمامة جزءاً لا تتجزأ من جسدها فلا تفارقها في النوم والصحوة وفي كل ركن من اركان المنزل . ورغم معاناتها لآلآم مبرحة لا يتحملها إلّا أُلو العزم والصبر ورغم معرفتها بمصيرها المحتوم لم يفارقها شيئان ابتسامة تعلو شفتيها المرهقتان والمصحف بين يديها الهزيلتين ولا زالت حتى آخر عمرها لا يفارقانها أبداً . يا إلهي يا سناء ما أعظم صبرك وما أشدك على بلائك وما أقوى عزمك كل ما أُسعفت في غرف الطوارئ وكل ما أُدخلت بشكل طارئ لغرفة العمليات لمحاولة الأطباء سد ورتق انفجاراً بإحدى حويصلات رئتيها المهترئتين لتخرج منها مبتسمة حامدة لربها وكأنها تقول : أنا بخير وبإحدى زياراتي لها قالت عبارة لا تُنسى ما حييت لي : ما أصابني يا حنان ليس من البشر بل من رب البشر لذلك لن يخذلني أبداً وسيعطيني الأفضل حتى أرضى .. هكذا عاشت سناء خمسة وعشرين عاماً لا اسميها ربيعاً بل خريفاً لأنها لم تعش يوماً بلا ادوية وكمامة وطواري وغرف عمليات كل ما انفجرت احدى حويصلات رئتها اضف لذلك شدة الألم وصعوبته حتى على ذوي العزم والصبر كما أخبرنا الطبيب بذلك ، كيف يا أخيتي يا ذات الوجه الملائكي تحتملين الآلام وأي صبر حملتيه بين جنبيك طوال السنوات الخمس والعشرون وكيف لم ينفذ هذا الصبر بإحباط مصيرها المحتوم والأدهى أنَّا لها شحذه ليستمر بل يقوى أكثر وأكثر وأي أمل وعلاقة بالله عشتيها وأنشأتِها حصوناً وقلاع منيعة من الحزن والكآبة في قلبك المجهد بالمرض . في احدى الأيام سقطت سناء وبلغونا أطباؤها أن رئتيها اهترأت تماماً ووضعوا لها تنفساً صناعياً ذلك اليوم لا أنساه ما حييت فلقد ذُعرت ووليت هرباً وسوَلت لي نفسي بأنها ستكون غداً أفضل فلا داعي للعجلة وسوّفت زيارتها إلى الغد وكلي أمل بأني سأراها غداً مبتسمة حاضنة مصحفها . استيقظت صباحاً للتوجه إلى مدرستي وما أن وصلت عملي حتى وصلني بالهاتف خبر وفاتها فجراً لقد حطت أسلحتها وانتهت معركتها ووصلت محطتها الأخيرة وانتقلت إلى جوار ربها ، يا لهول ما صنعتُ و يا ندمي على التسويف والهروب الذي لم يمكنني أن أراها مقترنة روحها وجسدها معاً بل رأيتها جسداً قد فارق روحها ، جسداً ساكناً وهادئاً لمسته لأجده طرياً راوياً وكأنها قد اغتسلت بماء عجيب فلا أثر لبلل ولا دهون رغم مرور ساعات على وفاتها واختفى الهزال وكأنه جسد عروس ليلة عرسها بل أجمل ، ووجهها الملائكي وضّاءاً لم أرى مثل وضاءته أبداً مسفراً مستبشراً في شفتيها ابتسامة أجمل من المعتاد انها ليست ميته هي نائمة نومةً هانئة لا ألم ولا صعوبات تنفس كيف لا ؟ وهي التي عاشت خمس وعشرين تصارع مرضاً مميت بالآلام والتعب والكدر ورأيت نفسي أربتُ على كتف أخي الباكي الناحب بقولي : لا تبكي بل افرح لها فقد فارقت روحها جسدا أنهكها بمرضه واتعبها وحبست فيه طول عمرها لحكمة يعلمها الله هي الآن روح حرة محلقة في رحمات الله لتفتح لنفسها الطاهرة أبواب سماواته فهي في داراً خيراً من دارنا وبضيافة من خلفها ووهبها نعمة المرض فصبرت صبر أولي العزم وقد وعد الله الصابرين بالبشرى في قوله تعالى ( وبشّر الصابرين ) وقد سمعت والدي رحمه الله يخبر بأنه لم يزوجها بنفسه ولكن أراد الله أن يخصها بزواجها في جنات النعيم بإذن الله . فأي فضل لك يا سناء اختصك الله به وأي بشارة لصبرك وأي سرعة في مراسم تكفينها ودفنها فهنيئاً لمن كانت راحته في آخرته وعند عودتنا للبيت وجدنا في غرفتها كتابة لها قد سطرتها في أوراق التقويم المؤرخ تخبرنا أن عليها قضاء أيام معدودات وتطلب بيع ذهبها لقضاء ما عليها من صيام وكأنها تخبرنا بأنها لن تقضيه هذا العام نعم فقد ماتت في شهر شوال بعد أزمتها الأخيرة . رحمك الله يا سناء وغفر لي تقصيري في أخوتي لها فكلنا سائرين على نفس الطريق فنحن أموات لا حقون وسناء ومن مثلها سابقون فقط تقديم وتأخير لا يعلمه إلاّ الله عالم الغيب والشهادة آملين حسن الخاتمة والمنقلب وإنا لله وإنا إليه راجعون .. كتبته أختها / حنان بنت سالم الثقفي يوم الخميس 26 سبتمر 2019 2
سجل معنا أو سجل دخولك حتى تتمكن من تسجيل اعجابك بالخبر

محرر الخبر

ساميه الموسى
محرر وناشر
محررة وناشرة

شارك وارسل تعليق

بلوك المقالات

الصور

.

.

أخر ردود الزوار

الكاريكاتير

استمع الافضل

آراء الكتاب

admin الدعم الفني
صحفي في قسم مناسبات, رئيس فريق الدعم الفني شبكة نادي الصحافة السعودي
شبكة نادي الصحافة السعودية موجودة في "مبادرة تمكين جودة الحياة
2023-09-07   

آراء الكتاب 2

admin الدعم الفني
صحفي في قسم مناسبات, رئيس فريق الدعم الفني شبكة نادي الصحافة السعودي
شبكة نادي الصحافة السعودية موجودة في "مبادرة تمكين جودة الحياة
2023-09-07   
جمعه الخياط جمعه الخياط
صحفي في قسم صوت المواطن, رئيس مجلس ادارة صحيفة صوت مكة الالكترونية
مؤسسة القايدي: الريادة والصدق في تطوير العقارات بمكة المكرمة
2025-11-07   
ابراهيم حكمي ابراهيم حكمي
صحفي في قسم مقالات, مدير الدعم الفني والنشر
هوية لا تُقاس بالأرقام .
منذ 6 يوم و 2 ساعة   
ايمان محمد ايمان محمد
صحفي في قسم اخبار دولية, اعلامية ومراسلة صحفية في مجموعة شبكة نادي الصحافة السعودي
*وزارة الداخلية تحتفي بمرور 100 عام على تأسيس الدفاع المدني.. الثلاثاء المقبل*
2025-10-25   
فايزه عسيري فايزه عسيري
صحفي في قسم اخبار محلية, كاتبة وناشرة ببوابة صوت مكة التثقيفية
أمانة مكة تنظم ورشة حماية النزاهة وتعزيز الشفافية
2022-08-24   
بدر فقيه بدر فقيه
صحفي في قسم اخبار محلية, || محرر وناشر في شبكة نادي الصحافة السعودي. بكالوريوس نظم المعلومات من كلية الحاسب الألي بجامعة الملك خالد بأبها
عندما يتعرض مصاب بالسكري لنوبة انخفاض السكري وهو واعي
2018-11-20   
عيشه حكمي عيشه حكمي
صحفي في قسم اخبار محلية, محررة وناشرة بالصحيفة
رحلة اكتشافه للبيوت التراثيه لقريه عتود
2019-01-04   
حنين مسلماني حنين مسلماني
صحفي في قسم ثقافة وفنون, محرر وناشر
متصل الان (أحاديث قهوة )
2019-01-18   
شمعه خبراني شمعه خبراني
صحفي في قسم اخبار محلية, محرر وناشر بصحيفة صوت مكة الاجتماعية
وزارة العدل تتيح الاستعلام الإلكتروني عن الإقرارات
2019-12-15   
ساميه بكر سامية بكّر
صحفي في قسم مقالات, مدير تحرير القسم النسائي بمكة
مسيرة عطاء
2020-11-20   
سلمى البكري سلمى البكري
صحفي في قسم شعر وخاطرة, مدير تحرير القسم الأدبي بالصحيفة
أوراق مزيفة
منذ 6 يوم و 5 ساعة