تأملتُ قوله تعالى : ( ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين )
ورأيت تحسّر وندم قابيل عندما أقدم على أول جريمة قتل في تاريخ البشرية لأخيه هابيل وحيرته ليواري سوأة أخيه " جثته " ومحاكاته لصنيع الغراب وهو يحث التراب لدفن الغراب المقتول ومحاولات إخفاء معالم الجريمة بدفن الجثة تحت الأرض حقيقةً وإن اختفى الأثر المادي ( أي الجثة ) ولكن هيهات أن يُمحى الأثر ويندثر الحدث مهما تقادم الزمان وتعاقبت الأجيال فما زالت الأخبار والقصص تُسرد حتى يومنا هذا .
وهذا التحسّر والندم يعيش معه فيعكر صفو حياته وينكد عيشه ويُفسد دينه ويحبط آماله ويدمرها فلا هناء معه ، ويكفي لندرك فداحة قسوة التحسّر والندم أن الله جعلها عقوبة ومن طرائق التعذيب لأهل النار .
فهل نتعض ونتعلم من الغراب وندم ابن آدم فلا نتجرأ على الجرم ابتداءً في حق الآخرين فالإساءة جرم وذنب مهما كانت وتنوعت كأن نجرح قلباً أو نحرج قريباً أو نُحبِط موهبة أو ندمر طموح أو نفرق بين الأحبة أو نشتت أُسراً .
وإذا وقع وحصل منا هل نكفّر عنه باعتذار وتعهد حسن المعاملة وحاولنا نجبر الكسر ونتودد ونتقرب بكل ما نستطيع حتى نخفف من أثره على النفس ووقعه في القلب الموجوع مع أنه لا يزول ولا يندثر أثره في الذاكرة وان نجحنا في ازالته ودوائه في القلوب .
بل ما يزيد السوء سوءاً هو المكابرة والكبر إذا أقدم على الإساءة للآخرين فيزيد في الأذى ويستفحل في الإيلام ويتفنن في سوءته ويتوغل في الذنب بسبب الكبر الذي حرم ابليس وفرعون وصناديد قريش من النعيم وأدخلهما الدرك الأسفل من النار.
فتجده يتعمد تكرار الأذى ويستمتع باستجراره في كل مرة ومن جديد فتكراره ينفي عنه الخطأ الغير مقصود والغفلة المغفورة فيزيد الجرج جرحاً والألم ألماً ومع التكرار تعمُّد والتعمد يورث في نفوس المحيطين به جفاءً وفي ذي القربى قطيعة وللمقربين خذلاناً كبيراً وللمحبين كسراً فلا مجال هنا للإصلاح بعد الإتلاف ولا اعتذار ولا مجال مع التكرار والتعمد الغفران والعفو فيحدث الفقد مثلما فقد قابيل أخيه المقتول وأيضاً رضى أباه آدم .
والفقد عقوبة مُرّة لا تُحتمل مرارتها المتواصلة حتى الموت فيفقد أخوة وأصدقاء وأحبة وأبناء وتستمر خساراته طوال حياته المكابرة فهو يرى من وجهة نظره الاعتذار والتراجع عن خطأه مهانه وتواضع ليس في محله ، فيفضل الإنكار والإصرار محاكياً لمقولة " أنا ومن بعدي الطوفان " غير آبه بالآخرين وبمشاعرهم النافرة منه .
فيعيش وحيداً ومنبوذاً ويحيى حياةً بائسة خالية من الأحبة يجتر ذكريات أفعاله فيموت ويفنى ويعدم في نظر الناس قبل موته فكيف بما بعد الموت ، ولكبر نفسه يلوم الآخرين عن جفوتهم لكن فقط بظاهره ولكن بداخله قد مرر الفقد حياته متحسراً وهو معاند ونادماً وهو ناكر وقد فضح الله المكابرين وهم هكذا مهما كان نوع مكابرتهم بقوله عز وجلّ :( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ) ينكرون جريرتهم بالظاهر ولكن بداخلهم ي
مدركين لجرمهم ولكن الكبر وما يفعله بالنفس ويهلك الروح ..
بقي أن نقول : لماذا لا نتعض ونحارب أنفسنا من البداية ونتواضع لمن حولنا ونعتذر إذا أخطأنا بحقهم ولا نعظّم أنفسنا ونكابر قبل أن نفقد فنموت من الوحدة وبعدها نفنى ونُعدم الأثر والذكر الحسن قبل موتنا وبعده .
فبعد الموت نفنى ونعدم ويبقى الذكر والأثر فقط ونريد من يتذكرنا بدعوة صالحة أو يبرنا كولد صالح أو يبذل من أجلنا صدقة تنفعنا في آخرتنا.
ولا أحد من بني آدم يريد أن يكون فناؤه وعدمه قبل الموت وحتى بعده ..
الكاتبة : حنان بنت سالم الثقفي